المطبات "الإثيوبية" فى معركة السد "الدبلوماسية"!
بقلم: عبدالمحسن سلامة
أكثر من 9 سنوات حتى الآن، وإثيوبيا تلجأ إلى "المراوغة" تارة، والمناورة تارة أخرى، وتظهر غير ما تبطن، وتقول معسول الكلام، لكنها تأتى بتصرفات عكسية لما تقوله وتلتزم به.
سوء نية إثيوبيا بدأ منذ إعلان طرحها فكرة بناء السد فى 31 مارس 2011 على لسان رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق "مليس زيناوى" أى بعد ما يقرب من شهرين فقط على وقوع أحداث ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، وهو التوقيت الذى كانت تعانى فيه مصر من الفوضى والانفلات، واندلاع المظاهرات، وسقوط نظام، ومحاولات خبيثة لإسقاط الدولة.
استغلت إثيوبيا هذا التوقيت الحرج وجاء الإعلان الإثيوبى عن بناء السد، وبسرعة شديدة تم وضع حجر الأساس فى 2 أبريل 2011 بشكل عشوائى ومتسرع ليؤكد سوء النية واستغلال فرصة انشغال مصر بمشاكلها الداخلية، وفى ذلك الوقت لم تعلن إثيوبيا تفاصيل المشروع بالكامل، ومواصفات السد، وسعة تخزينه، وتركت كل هذا للتخمينات والتسريبات.
بدأت التسريبات بسعة تخزين تدور حول 14 مليار متر3، لكن المعلومات خرجت بعد ذلك تشير إلي أن سعة التخزين ارتفعت إلى 74 مليار متر مكعب دون أن تكون هناك دراسات علمية موثقة تؤيد هذا الطرح، مما يثير المخاوف حول مستقبل السد والخوف من انهياره، وتدمير أجزاء كبيرة من العاصمة السودانية الخرطوم.
لا توجد معلومات أو بيانات حول تفاصيل سعة التخزين، خاصة ما يتعلق بحجم المخزون الميت والمخزون الحى، ومخزون الحماية من الفيضان، وكلها تفاصيل فنية يؤكد الخبراء ضرورة توافرها ونقلها لدولتى المصب لوضع الخطط الإستراتيجية اللازمة لإدارة ملف المياه فيهما.
لم تهتم إثيوبيا بالتفاصيل الفنية والإستراتيجية لكنها لجأت إلى "المماطلة" و"التسويف" فى كل مراحل التفاوض، لذلك فقد اضطرت مصر والسودان مؤخرا إلي رفع الملف إلى مجلس الأمن فى الأول من مايو الجارى متضمنا رفض كل من الدولتين خطة إثيوبيا الجزئية التى اقترحتها لملء السد.
جاء هذا الموقف على خلفية إرسال رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد مقترحا إلى كل من مصر والسودان فى أبريل الماضى يتضمن اتفاقا جزئيا يشمل المرحلة الأولى فقط من الملء، وهو ما رفضته مصر والسودان على الفور لمخالفة ذلك لاتفاق إعلان المبادئ الذى تم توقيعه فى الخرطوم فى 23 مارس 2015 بحضور زعماء الدول الثلاث، وتوقيعهم على تلك الاتفاقية الملزمة للأطراف الثلاثة.
منذ خمس سنوات قامت إثيوبيا ومصر والسودان بالتوقيع على اتفاق إعلان المبادئ الذى وضع نصوصا واضحة وملزمة للدول الثلاث وأهمها ما يتعلق بالنص على مبدأ عدم التسبب فى ضرر ذى شأن، وتأكيد رفض حدوث أى ضرر ذى شأن لأى دولة، وحق الدولة المتضررة فى منع الضرر بل والمطالبة بالتعويض.
هذا هو المبدأ الثالث من إعلان المبادئ، وهو نص واضح وصريح يعطى لمصر الحق فى رفض أى ضرر مائى يلحق بها، ويعطيها كذلك حق الدفاع عن حقوقها المائية، بل وأكثر من ذلك، وهو المطالبة بالتعويض إذا اقتضت الضرورة ذلك.
خمس سنوات كانت كافية من أجل أن تؤكد إثيوبيا حسن النوايا، وتلتزم بما وقعت عليه فى اتفاق المبادئ، وتقوم بتحويله إلى اتفاقية ثلاثية ملزمة، وهو ما كاد يحدث بعد مفاوضات ماراثونية شاقة ومعقدة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
وصلت هذه المفاوضات إلى مسودة اتفاق نهائى حول سد الأزمة الإثيوبى، ووافق الأطراف الثلاثة على قيام الجانب الأمريكى والبنك الدولى بصياغة الاتفاق بشكله النهائى وضبط الصياغات القانونية، ليكون جاهزا للتوقيع من زعماء الدول الثلاث فى واشنطن.
انتهت المفاوضات، وتم تحديد جميع العناصر الواجب تضمينها فى الاتفاق النهائى، وإقرار العناصر الفنية الخاصة بقواعد الملء والتشغيل للسد، وكذلك كل ما يتعلق بمفهوم السنوات "الشحيحة" التى قد تتزامن مع عملية السد، وقواعد التشغيل الطويلة الأمد، وكل النقاط الأخرى التى تم الاتفاق عليها بين الخبراء والوزراء من الدول الثلاث.
كان هناك تطابق بين موقفى مصر والسودان رغم محاولات إثيوبيا لزرع الفتنة بين الشقيقتين مصر والسودان، لكن هذه المحاولات ذهبت أدراج الرياح بعد أن طرح الوفدان المصرى والسودانى صيغا مشتركة للعديد من القضايا المطروحة.
بعد كل هذه المفاوضات اطفأت إثيوبيا أفراح دول حوض وادي النيل، وعادت إثيوبيا إلى عادتها فى "المراوغة" و"المماطلة" وتغيبت عن حضور الجولة الأخيرة للمفاوضات في واشنطن لتسقط ورقة التوت عن النوايا الإثيوبية السيئة تجاه مصر والسودان، وتؤكد مرة أخرى عدم جديتها فى الوصول إلى اتفاق يضمن تحويل "السد" إلي فرصة للتعاون والتكامل بين الدول الثلاث، بدلا من أن يصبح "أزمة" ومصدرا للمشاكل والمنازعات.
قبلت إثيوبيا رعاية أمريكا والبنك الدولى للمفاوضات والاتفاق، ثم عاودت الهروب والاختفاء، كما فعلت من قبل حينما قامت بالتوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ الملزمة للأطراف الثلاثة، ثم تقوم بمخالفتها ومخالفة كل ما جاء فيها من بنود واضحة ومحددة.
تخالف إثيوبيا المبدأ الخامس من اتفاقية إعلان المبادئ المتعلق بالتعاون فى الملء الأول وإدارة السد، وهو المبدأ الذى تحاول إثيوبيا التنصل منه وتخالفه بإعلانها البدء فى عملية الملء بشكل أحادى.
المبدأ الخامس جاء مكملا للمبدأ الرابع الخاص بالاستخدام المنصف والعادل للموارد المائية، وتأكيد ضمان تحقيق ذلك، والأخذ فى الاعتبار كل العناصر الاسترشادية مثل احتياجات السكان، والجغرافيا المائية، والمناخية، وباقى العناصر الطبيعية.
مصر هى الدولة الأكثر احتياجا للموارد المائية من إثيوبيا والسودان بسبب "الشح المائى" الذي تعانيه، حيث لا يوجد لها مورد آخر من المياه سوى حصتها من مياه النيل التى لم تعد كافية فى ظل مضاعفة أعداد السكان، فى حين أن إثيوبيا توجد بها 10 أحواض أنهار، بخلاف حوض النيل الأزرق، ويسقط عليها 936 مليار متر مكعب من الأمطار سنويا.
ما تعلنه إثيوبيا وتقوم بتسريبه والخاص ببدء الملء والتشغيل أحادى الجانب، مخالفة صريحة للمبدأ الخامس لإعلان المبادئ الذى نص كذلك على ضرورة الاتفاق على الخطوط الإرشادية لقواعد التشغيل السنوى للسد، وضرورة إخطار دولتى المصب بأى ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعى إعادة ضبط عملية تشغيل السد، وأن تكون هناك آلية تنسيقية بين الدول الثلاث لتنفيذ ذلك.
نصوص صريحة وواضحة تحاول إثيوبيا مخالفتها دون مبرر موضوعى، إلا إذا كانت تخفى أشياء أخرى غير التى تعلنها، فمصر موقفها واضح ومعلن منذ البداية، وهى أنها ليست ضد التنمية فى إثيوبيا، وأنها تدعم هذا الحق، لكن فى ذات الوقت ترفض المساس بحقوقها فى مياه النيل، وترفض أى ضرر يتعلق بشعبها فى هذه الإطار، لأن المياه مسألة حياة، وهناك فرق ضخم بين الحق فى التنمية، والحق فى الحياة، كما يؤكد دائما الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومياه النيل هي حياة المصريين، وبالتالى فمن غير المقبول علي الإطلاق المساس بهذا الحق الممتد عبر آلاف السنين.
إثيوبيا تريد بمقترحها الجزئى أن تعود إلى نقطة الصفر من جديد لتستمر فى سياستها "الملتوية" وغير المفهومة والتى تعرقل خطط الاتحاد الإفريقى فى التقارب والاندماج وإحلال السلام بين شعوب القارة، خاصة بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية التى نجح الرئيس عبد الفتاح السيسى فى ظهورها إلى النور فى أثناء توليه رئاسة الاتحاد الإفريقى في العام الماضى.
أتمنى أن تراجع إثيوبيا موقفها، وأن تنهى حالة المماطلة والتسويف المستمرة منذ 9 أعوام، وأن تنهى الشكوك حول نواياها خاصة فى ظل وجود اتفاقيات دولية ملزمة تضمن حصتى مصر والسودان من مياه النيل، لأنه طبقا للمبادئ التى أقرتها محكمة العدل الدولية فى لاهاي، فإن اتفاقيات الأنهار والموارد المائية لها قوة اتفاقيات الحدود نفسها، وهناك اتفاقيات دولية قديمة حددت حصتى مصر والسودان فى مياه النيل، وأكدتها اتفاقية إعلان المبادئ الحديثة التى تم توقيعها منذ 5 سنوات والتى أكدت كل بنودها عدم الإضرار بدولتى المصب وحقهما فى النصيب العادل من مياه النيل.